خريطة حركة السياحة في أوروبا تتغير بسبب تغير المناخ والسياحة المفرطة.. تفاصيل

بدأت حركة السياحة في أوروبا تتجه شمالا وسط درجات الحرارة المرتفعة جنوبي القارة بسبب التغير المناخي. وتماشيا مع أجندة السياحة في الاتحاد الأوروبي لعام 2030، تسعى الدول الأوروبية إلى جعل قطاع السياحة أخضر (صديقا للبيئة) بدرجة أكبر، وأكثر استدامة، وأن يشهد مزيدا من التحول الرقمي، وذلك بالتوافق مع إرشادات الاتحاد الأوروبي ذات الصلة، بالإضافة إلى تطوير سبل لتخفيف أعباء السياحة المفرطة، حتى أن البعض حول تركيزه إلى الترويج لوجهات أقل تقليدية، بينما يسعى آخرون لإيجاد طرق لتخفيف أعباء السياحة الزائدة في الوجهات الشعبية.

 

وفي ظل حرائق مدمرة، ودرجات حرارة تجاوزت 40، يسعى السائحون إلى تفادي كوارث محتملة بالبقاء في منازلهم، حيث يظهر سؤال: "هل يترك التغير المناخي آثاره على السياحة، خاصة في منطقة البحر المتوسط؟"، وذلك وفقا لتقرير منشور على موقع غرفة الأخبار الأوروبية (enr).

 

وأظهرت خدمة التغير المناخي "كوبرنيكوس" التابعة للاتحاد الأوروبي أن شهر يوليو الماضي كان أكثر الشهور سخونة على الإطلاق. وقالت نائب مدير كوبرنيكو، سامانثا بورجيس، مشيرة إلى حسابات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي، إن درجات الحرارة لم ترتفع إلى هذا المستوى منذ ما لا يقل عن 120 ألف عام.

 

وكانت المناطق التي تستقبل النسبة الأكبر من السائحين هي الأكثر تضررا من التغير المناخي. وجرى الشهر الماضي إجلاء آلاف السائحين من جزيرتي رودس وكورفو باليونان، بعدما اجتاحت الحرائق الجزيرتين، في طقس شديد الحرارة. كما عانت بقوة إيطاليا من موجات الحر، حيث تعرضت جزيرة سردينيا لدرجات حرارة وصلت إلى 48 درجة مئوية.

 

وفي ظل هذه الظروف، فإن السؤال المطروح هو: "هل ينجذب المصطافون إلى السويد أو أيرلندا مستقبلا، عوضا عن منطقة البحر المتوسط؟".

 

أشارت دراسة استقصائية أعدتها مفوضية السفر الأوروبية (ETC)، وهي المنظمة الجامعة للعديد من المنظمات والهيئات والسلطات السياحية في أوروبا، إلى أولى هذه التحولات. وبحسب الدراسة، تظل إسبانيا وجهة مفضلة لراغبي السفر خلال الفترة من يونيو إلى نوفمبر من كل عام، تليها في ذلك فرنسا، وإيطاليا، واليونان، ثم كرواتيا.

 

ومن ناحية أخرى، قال رئيس رابطة السفر الألمانية (DRV)، نوربرت فيبيج: "ليس هناك أي تغير حاليا في الحجوزات بسبب موجة الحر الممتدة في جنوب أوروبا". من ناحية أخرى، من بين 6000 شخص شملهم الاستطلاع في جميع أنحاء أوروبا، يخطط أقل بـ10% من المشاركين للقيام برحلة إلى البحر المتوسط، مقارنة بالعام الماضي. وفي المقابل، زادت شهرة التشيك وبلغاريا وأيرلندا والدنمارك.

 

ويرجع إدواردو سانتاندير، الرئيس التنفيذي لمفوضية السفر الأوروبية، ذلك، إلى السائحين الذين يبحثون عن أماكن أقل ازدحاما، وأكثر اعتدالا في درجات الحرارة. ويقول: "نتوقع أن تتأثر حركة السفر في أوروبا على نحو أكبر بالأحوال الجوية في المستقبل، والتي لا يمكن التنبؤ بها".

 

ومن المرجح على نحو أكبر أن يتجنب المسافرون، المقاصد الجنوبية أثناء موجات الحر. وأوضح "سانتاندير": "ربما يؤدي هذا إلى دفع مزيد من الأوروبيين إلى مقاصد وسط وشرق أوروبا بحثا عن درجات حرارة معتدلة خلال أشهر الصيف". ولفت إلى أن وجهات جنوبي أوروبا قد تستقبل المزيد من السائحين خلال موسمي الربيع والخريف.

 

وكشفت دراسة أجرتها المفوضية الأوروبية، عن كيف يمكن أن تتغير سلوكيات السفر والسياحة. وقالت المفوضية في التقرير: "وجدنا نمطا واضحا لتغيرات الطلب على السياحة ما بين الشمال والجنوب، وتستفيد مناطق الشمال من التغير المناخي، في حين تواجه مناطق الجنوب تراجعا واسعا في الطلب على السياحة".

 

الإمكانيات الخضراء (الصديقة للبيئة): تغيير المسار لتعزيز الجاذبية

 

أدركت إسبانيا تفاقم هذه الحقيقة بسبب التغير المناخي، ولذلك تسعى إلى تعزيز تراثها من مظاهر الطبيعة، مثل الغابات ومحميات المحيط الحيوي، من أجل تغير صورتها النمطية. وأشارت هيئة تنشيط السياحة التابعة للحكومة مؤخرا إلى الحاجة لتحويل إسبانيا إلى "وجهة ذات منتجات  متعددة"، إلى ما هو أكثر من الشمس والشواطئ.

 

ورأت هيئة تنشيط السياحة أنه يتعين أن تشمل هذه العملية تحولا في قطاع السياحة في إسبانيا، وهو هدف مدرج في أجندة الاتحاد الأوروبي السياحية حتى عام 2030، مما يؤكد على نحو خاص الحاجة إلى وضع التحول الأخضر والرقمي في القلب من النشاط السياحي للبلاد.

 

وفي الوقت نفسه، كثفت سلوفينيا جهود تعزيز السياحة في البلاد على مدار سنوات، انطلاقا من شعار "الوجهة الخضراء" لديها. وصارت سلوفينيا وجهة سياحية تتمتع بشهرة متنامية بفضل مناطق الغابات والمياه الوفيرة وفرص قضاء عطلات نشطة في أحضان الطبيعة، ولكن ليس للسياحة الجماعية

 

وتشمل التحديات الرئيسية في هذا الشأن السياحة المستدامة، مع أقل قدر ممكن من الانبعاثات الكربونية، والتنقل المستدام، والمواد الغذائية المنتجة محليا، والموارد البشرية الملائمة.

 

والأمل من وراء تبني ممارسات مستدامة، هو أن يتمكن السكان المحليون من تقبُل الضغوط التي تسببها السياحة، على نحو أكبر، فقد كانت تلك مشكلة في الوجهات السياحية الأكثر شهرة مثل بليد وبوينج، على مدار السنوات الأخيرة.

 

تأثير الظروف الإقليمية على نجاح السياحة

 

تحظى البوسنة والهرسك بإمكانيات سياحية وافرة، خاصة في مجال السياحة الجبلية والنهرية. وتقر المنظمات الدولية للتنمية بهذه الإمكانيات على نحو أكثر من المؤسسات المحلية. وتتبنى البوسنة الاتجاه العالمي المعني بتعزيز الاهتمام بالسياحة في المناطق الأكثر برودة.

 

وتتسم المنطقة بأسعار ملائمة للغاية بالنسبة للجولات السياحية، وبجمال الطبيعة، ولكن هناك مشاكل تتعلق بالبنية التحتية الهشة في مجال النقل، وبالوضع السياسي الذي يعاني من عدم الاستقرار. ولم يتم عمل الكثير للترويج للإمكانات السياحية في البوسنة والهرسك في أنحاء العالم، وحتى القليل الذي تم، لم ينفذ بشكل منهجي.

 

وفي رومانيا، كان التأثير الإيجابي الوحيد، إلى حد ما، للتغير المناخي هو "إطالة أمد موسم الصيف"، حيث يتجه المزيد والمزيد من السائحين لقضاء عطلاتهم هناك خلال شهر يونيو، وهو ما يخفض ضمنا الضغوط على ذروة الموسم، بحسب ما ذكره رئيس الجمعية الوطنية الرومانية لوكالات السياحة، دوميترو لوكا.

 

وأدى فصل الشتاء المعتدل على مدار السنوات الأخيرة إلى زيادة حركة السياحة في البلاد خلال الفترة من نوفمبر إلى مارس. ورغم ذلك، تعاني منتجعات التزلج على الجليد من مواسم شتاء دافئة.

 

وأوضح "لوكا"، أنه حتى في ظل وجود منشآت إنتاج الجليد الاصطناعي، على المنتجعات أن تتقبل الهزيمة في المعركة أمام درجات حرارة تتجاوز الصفر بشكل مستمر.

 

حماية الوجهات المتميزة من السياحة المفرطة

 

عادة ما تزدحم الممرات الضيقة في جزيرة "مون سان ميشيل" الأيقونية بفرنسا، بالزائرين قبل موعد تناول الغداء مباشرة خلال فترة الذروة في موسم الصيف. أما في الوقت المتأخر بعد الظهر، تكاد تكون نفس المسارات الصاعدة شبه مهجورة.

 

وتواجه هذه المعضلة عشرات المواقع السياحية الأخرى الشهيرة في فرنسا، وبقاع أخرى من أوروبا، والتي تزدحم بالزائرين خلال نهار أيام الصيف، لكنها تخلو منهم في المساء، وفي المواسم الأخرى، وهو أمر غالبا ما يضر الاقتصاد المحلي .

 

وفرضت جزيرة بريهات الفرنسية الصغيرة قيودا على عدد الزائرين خلال الصيف  الحالي، بعدما وصل عدد من أقبل منهم على شواطئها الصخرية في يوم واحد، إلى 15 ضعف عدد سكانها.

 

يشار إلى أن الجزيرة، التي يبلغ عدد سكانها الدائمين 377 فقط، جزء من شبكة الحماية الخاصة بالاتحاد الأوروبي "Natura 2000"، والتي تسعى إلى تعزيز التنوع البيولوجي عبر حماية موائل الأنواع الأكثر عرضة للخطر.

 

وأوصت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) مؤخرا بإدراج مدينة البندقية وبحيرتها في قائمة المنظمة للتراث العالمي المعرض للخطر. وقالت المنظمة إن المدينة تواجه أضرارا "لا يمكن تداركها"، بسبب مجموعة من التهديدات، بينها أزمة المناخ والسياحة الجماعية، مضيفة أنه يتعين على السلطات الإيطالية بذل مزيد من الجهد لحمايتها.

 

ومن المقرر طرح هذه التوصية على اجتماع لجنة التراث العالمي لليونيسكو في العاصمة السعودية الرياض في سبتمبر المقبل. ويشار إلى أن البندقية مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونيسكو منذ عام 1987.

 

إجراء متوازن للاقتصاديات المحلية

 

وأعلنت مدينة باريس مؤخرا أن القيود الصارمة المفروضة على موقع Airbnb الإلكتروني  لتأجير واستئجار أماكن الإقامة، عبر الإنترنت، لا تزال سارية، مشيرة إلى عدد أقل من الانتهاكات المتعلقة بنشاط الموقع  هذا العام في العاصمة الفرنسية، ولكن بغرامات أشد.

 

وتزايد استخدام Airbnb بشكل واسع على مدار السنوات الأخيرة في أنحاء العالم، حيث يتيح الموقع للمستخدمين إمكانية الحصول على مكان للإقامة في منزل بدلا من الفنادق. وحصلت باريس في عام 2021 على موافقة من محكمة النقض الفرنسية على فرض هذه القيود، مع حكم بأنها تتوافق مع قانون الاتحاد الأوروبي.

 

ومن المقرر أن تستضيف باريس دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في عام 2024، ويتوقع أن تبلغ أسعار الإقامة ذروتها. وقال مجلس المدينة في بيان: "الترسانة التنظيمية للمدينة تعمل، وهناك انتهاكات أقل"، وأضاف أن بيانات التقاضي المرتفعة خلال عامي 2021 و2022 كانت بسبب تعليق القضايا في انتظار قرارات من الاتحاد الأوروبي. وهناك اتفاق بين المتخصصين في القطاع على أمر واحد، وهو أن "السياحة ستشهد تغييرات".

 

لكن في رومانيا، يتم انتقاد الإجراءات المالية المتعلقة بالرسوم والضرائب التي ناقشها مجلس بوخارست التنفيذي. ويجادل العاملون في مجال السياحة بأن زيادة الضرائب في السياحة ستنعكس على الأسعار، مما سيحد من الاستهلاك ويضع رومانيا في المرتبة الثالثة في أوروبا من حيث ضريبة القيمة المضافة، بعد الدنمارك وبريطانيا.

 

وبعدما تراجعت السياحة على نحو بالغ بسبب كورونا، يسير القطاع حاليا في مسار استعادة قوته وأرقامه خلال فترة ما قبل الجائحة، ولكن في خضم تحديات جديدة. وسوف يظل قطاع السياحة الأوروبي دوما في حالة استنفار لكل الاحتمالات، في ظل تداعيات التغير المناخي، والحاجة إلى مزيد من الاستدامة، والبحث عن حلول للسياحة المفرطة.